فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني وفيه إيماءٌ إلى ركاكة رأيِهم المذكور: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} برهانٍ ظاهر: {مّن رَّبّى} وشاهدٍ يشهد بصِحّة دعواي: {وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} هي النبوةُ، ويجوز أن تكون هي البينةَ نفسَها جيء بها إيذانًا بأنها مع كونها بينةً من الله تعالى رحمةٌ ونعمةٌ عظيمة من عنده، فوجْهُ إفرادِ الضمير في قوله تعالى: {فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ} حينئذ ظاهرٌ وإن أريد بها النبوةُ وبالبينة البرهانُ الدالُّ على صحتها فالإفرادُ لإرادة كلِّ واحدةٍ منهما أو لكون الضميرِ للبينة والاكتفاءِ بذلك لاستلزام خفائِها خفاءَ النبوةِ، أو لتقدير فعلٍ آخرَ بعد البينة، ومعنى عُمِّيت أُخفيت، وقرئ عمِيَت ومعناه خَفِيت، وحقيقتُه أن الحجةَ كما تجعل مُبصِرة وبصيرةً تجعلُ عمياءَ، لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيرَه، وفي قراءة أُبيّ فعمّاهما عليكم على الإسناد إلى الله عز وجل: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي أنُكرِهُكم على الاهتداء بها، وهو جوابُ أرأيتم وسادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ، وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركةِ الميمِ، وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قُدِّم أعرفُهما جاز في الثاني الوصلُ والفصلُ، فوصل كما في قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله}، {وَأَنتُمْ لَهَا كارهون} لا تختارونها ولا تتأملون فيها، ومحصولُ الجوابِ أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرةِ الدِلالة على صِحّة دعواي إلا أنها خافيةٌ عليكم غيرُ مُسلَّمةٍ عندكم، أيمكنُنا أن نكرِهَكم على قَبولها وأنتم معرضون عنها غيرَ متدبِّرين فيها أي لا يكون ذلك، وظاهرُه مُشعِرٌ بصدوره عنه عليه الصلاة والسلام بطريق إظهارِ اليأسِ عن إلزامهم القعودَ عن مُحاجَّتهم كقوله تعالى: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} إلخ، لكنه محمولٌ على أن مرادَه عليه الصلاة والسلام ردُّهم عن الإعراض عنها وحثُّهم على التدبّر فيها بصرف الإنكارِ إلى الإلزام حالَ كراهتِهم لها لا إلى الإلزام مطلقًا، هذا ويجوز أن يكون المرادُ بالبينة دليلَ العقلِ الذي هو ملاكُ الفضل، وبحسبه يمتاز أفرادُ البشرِ بعضُها من بعض وبه يناط الكرامةُ عند الله عز وجل والاجتباءُ للرسالة، وبالكون عليها التسمكُ به والثباتُ عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضميرَ للبينة عدمُ إدراكِهم لكونَه عليه الصلاة والسلام عليها وبالرحمة النبوةُ التي أنكروا اختصاصَه عليه السلام بها بين ظَهرانيهم، والمعنى أنكم زعمتم أن عهدَ النبوةِ لا يناله إلا من له فضيلةٌ على سائر الناسِ مستتبِعةٌ لاختصاصه به دونهم، أخبروني إن امتزتُ عنكم بزيادة مزيةٍ وحيازةِ فضيلةٍ من ربي وآتاني بحسبها نبوةً منه فخفِيَتْ عليكم تلك البينةُ ولم تُصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلُكم وهي متحققةٌ في نفسها أنلزمكم قبولَ نبوتي التابعةِ لها والحالُ أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهامُ للحمل على الإقرار، وهو الأنسبُ بمقام المُحاجّةِ وحينئذٍ يكون كلامُه عليه الصلاة والسلام جوابًا عن شُبَههم التي أدرجوها في خلال مقالِهم من كونه عليه السلام بشرًا، قصارى أمره أن يكون مثلَهم من غير فضلٍ له عليهم وقطعًا لشأفة آرائِهم الركيكة.
{وَيَا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على ما قلته في أثناء دعوتِكم: {مَالًا} تؤدّونه إليّ بعدِ إيمانِكم واتباعِكم لي فيكونَ ذلك أجرًا لي في مقابلة اهتدائِكم: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} الذي يُثيبني في الآخرة، وفي التعبير عنه حين نُسب إليهم بالمال ما لا يخفى من المزية: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} جوابٌ عما لوّحوا به بقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} من أنه لو اتبعه الأشرافُ لوافقوهم وأن اتّباعَ الفقراءِ مانعٌ لهم عن ذلك كما صرّحوا به في قولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون} فكان ذلك التماسًا منهم لطردهم وتعليقًا لإيمانهم به عليه الصلاة والسلام بذلك أنفَةً من الانتظام معهم في سلك واحد: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ} تعليلٌ لامتناعه عليه السلام عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عز وجل كأنه قيل: لا أطرُدهم ولا أُبعِدُهم عن مجلسي لأنهم مقرَّبون في حضرة القدسِ، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية وجوبِ رعايتِهم وتحتّمِ الامتناعِ عن طردهم، أو مصدِّقون في الدنيا بلقاء ربِّهم موقنون به عالِمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطرُدهم. وحملُه على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيحٍ ثابتٍ كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرِفونهم به من بناء إيمانِهم على بادي الرأي من غير نظرٍ وتفكّر، وما عليّ أن أشقَّ عن قلوبهم وأتعرَّفَ سرَّ ذلك منهم حتى أطرُدَهم إن كان الأمرُ كما تزعُمون يأباه الجزمُ بترتّب غضب الله عز وجل على طردهم كما سيأتي وأيضًا فهم إنما قالوا إن اتباعَهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكرٍ، وهذا لا يكاد يصلُح مدارًا للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة، غايتُه أن لا يكونوا في مرتبة الموقنين، وادعاءُ أن بناءَ الإيمانِ على ظاهر الرأي يؤدّي إلى الرجوع عنه عند التأملِ فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبُتون على دينك بل يرتدون عنه تعسفٌ لا يخفى.
{ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} بكل ما ينبغي أن يُعلم، ويدخُلُ فيه جهلُهم بلقاء الله عز وجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردِهم لغضب الله كما سيأتي وبركاكة رأيِهم في التماس ذلك وتوقيفِ إيمانهم عليه أنفةً عن الانتظام معهم في سلك واحدٍ وزعمًا منهم أن الرذالة بالفقر والشرفَ بالغنى. وإيثارُ صيغةِ الفعلِ للدلالة على التجدد والاستمرارِ، أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخَساسة.
{ويا قوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} بدفْع حلولِ سخطِه عني: {إِن طَرَدتُّهُمْ} فإن ذلك أمرٌ لا مردَّ له لكون الطرد ظلمًا موجبًا لحلول السّخط قطعًا، وإنما لم يُصرَّح به إشعارًا بأنه غنيٌّ عن البيان لاسيما غِبَّ ما قُدّم ما يلوحُ به من أحوالهم فكأنه قيل: مَنْ يدفعُ عني غضبَ الله تعالى إن طردتُهم وهم بتلك المثابةِ من الكرامة والزُلفى كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتستمرّون على ما أنتم عليه من الجهل المذكورِ فلا تتذكرون ما ذُكر من حالهم حتى تعرِفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب، ولكون هذه العلةِ مستقلةً بوجه مخصوصٍ ظاهر الدلالةِ على وجوب الامتناعِ عن الطرد أُفردت عن التعليل السابقِ وصُدّرت بيا قوم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ} حين أدّعي النبوة: {عِندِى خَزَائِنُ الله} أي رزقُه وأموالُه حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فإن النبوةَ أعزُّ من أن تنال بأسباب دنيويةٍ ودعواها بمعزل عن ادعاء المالِ والجاه: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي لا أدعي في قولي: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} علمَ الغيبِ حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد.
{وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} حتى تقولوا: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} فإن البشريةَ ليست من موانع النبوةِ بل من مباديها يعني أنكم اتخذتم فُقدانَ هذه الأمورِ الثلاثة ذريعةً إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئًا من ذلك ولا الذي أدّعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانيةِ التي بها تتفاوت مقاديرُ البشرِ: {وَلا أَقُولُ} مساعدةً لكم كما تقولون: {لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي تقتحِمهم وتحتقرِهم من زراه إذا عابه، وإسنادُ الازدراءِ إلى أعينهم (إما) بالنظر إلى قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} وإما للإشعار بأن ذلك لقصور نظرِهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك أي لا أقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يُؤتيهَم خيري الدارين.
إن قلتَ: هذا القولُ ليس مما تستنكره الكفرةُ ولا مما يتوهمون صدورَه عنه عليه السلام أصالةً أو استتباعًا كادعاء المِلْكية وعلمِ الغيب وحيازة الخزائنِ مما نفاه عليه الصلاة والسلام عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمِنْ أيِّ وجه عطُف نفيُه على نفيها؟ قلتُ: من جهة أن كِلا النفيَيْن ردٌّ لقياسهم الباطلِ الذي تمسّكوا به فيما سلف فإنهم زعَموا أن النبوةَ تستتبع الأمورَ المذكورةَ وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثورَ على مكانها واغتنامَ مغانمِها ليس من دأب الأراذلِ فأجاب عليه الصلاة والسلام بنفي ذلك جميعًا فكأنه قال: لا أقول وجودُ تلك الأشياءِ من مواجب النبوةِ ولا عدمُ المالِ والجاهِ من موانع الخير: {الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ} من الإيمان، وإنما اقتُصر على نفي القولِ المذكورِ من أنه عليه الصلاة والسلام جازمٌ بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرًا عظيمًا في الدارين وأنهم على يقين راسخٍ في الإيمان جريًا على سنن الإنصافِ من القوم واكتفاءً بمخالفة كلامِهم وإرشادًا لهم إلى مسلك الهدايةِ بأن اللائقَ لكل أحدٍ أن لا يبُتَّ القولَ إلا فيما يعلمه يقينًا ويبني أمورَه على الشواهد الظاهرةِ ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة: {إِنّى إِذًا} أي إذا قلتُ ذلك: {لَّمِنَ الظالمين} لهم بحطِّ مرتبتِهم ونقصِ حقوقِهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وبالَه راجعٌ إلى أنفسهم وفيه تعريضٌ بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالِهم، وقيل: إذا قلتُ شيئًا مما ذكر من ادّعاء المِلْكية وعلمِ الغيب وحيازةِ الخزائن، وهو بعيدٌ لأن تبعةَ تلك الأقوالِ مغنيةٌ عن التعليل بلزوم الانتظامِ في زمرة الظالمين. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}
{قَالَ} استئناف بياني: {يا قوم أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} حجة ظاهرة: {مّن رَّبّى} وشاهد يشهد لي بصحة دعواي: {وَءاتَانِى رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ} هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانًا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى: {فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي أخفيت على هذا ظاهر، وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى، وجملة: {قَالَ يا قوم} على هذا معترضة أو لكونه للرحمة، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار.
وقيل: إنه معتبر في المعنى دون تقدير، أو لتقدير عميت غير المذكر بعد لفظ البينة وحذف اختصارًا، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة: {فَعُمّيَتْ} بفتح العين وتخفيف الميم مبنيًا للفاعل، وهو من العمى ضد البصر، والمراد به هنا الخفاء مجازًا يقال: حجة عمياء كما يقال: مبصرة للواضحة، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث أنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد، ثم فعل ما لا يخفى عليك، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلًا أعمى فيها، وقيل: الكلام على القلب، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب: ادخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر:
ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه

وقوله سبحانه: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقًا لا يجوز إلا في الضرورة، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف، وكذا الآية ليست منه أيضًا لأن أخلف يتعدى إلى مفعولين، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا ولا تقول: عميت على كذا.
وروي الأعمش عن وثاب وعميت بالواو الخفيفة، وقرأ أبيّ، والسلمي، والحسن، وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى، وقرئ بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى، ولذا أوله الزمخشري خفظًا لعقيدته: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.
وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعوله الأول البينة مقدرًا وجواب الشرط محذوف دل عليه: {أَرَءيْتُمْ} أي: {إِن كُنتَ} إلخ فأخبروني وحيث احتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما وهو ضمير المخاطب الاعرف من ضمير الغائب جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم، وقال ابن أبي الربيع: يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب: فإذا كان المفعولان اللذان تعدي إليهما فعل الفاعل مخاطبًا وغائبًا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه، قال الله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} فهذا كهذا إذ بدأتبالمخاطب قبل الغائب انتهى، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال: أنلزمها إياكم.
وأجاز بعضهم الاتصال، واستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: أراهمني، ولم يقل: أراهم إياي، وتمام الكلام على ذلك في محله، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع.
وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفًا، ويجوز مثل ذلك عند الفراء، وقال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثما من الله ولا واغل

وقوله:
وناع يخبرنا بمهلك سيد ** تقطع من وجد عليه الأنامل

وأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبطه عنه الراوي، وقد روي عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق، وذكر نحو ذلك الزمخشري، وقال: إن الإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، وفي قرأة أبيّ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} من شطر أنفسنا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ من شطر قلوبنا أي من تلقائها وجهتها، وفي البحر أن ذلك على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف: {وَأَنتُمْ لَهَا كارهون} أي لا تختارونها ولا تتأملون فيها، والجملة في موضع الحال قال السمين: إما من الفاعل.
أو من أحد المفعولين، واختير أنها في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وقدم الجار رعاية للفواصل، ومحصول الجواب أخبروين إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة لديكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك كذا قرره سيخ الإسلام ثم قال: وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} [هود: 34] إلخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الاعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقًا، وقال مولانا سعدى جلبي: إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم.
وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونهم عليه السلام عليها وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى إنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فضيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البنة ولم تصيبوها ولم تناولها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك، ثم قيل: فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة، وحينئذٍ يكون كلامه عليه السلام جوابًا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرًا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعًا لشأفة آرائهم الركيكة انتهى، وفيه أن كون معنى أنلزمكموها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرًا كما لا يخفى، ولعل الإتيان بما أتى به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لاعتبار متبعيه عليه السلام معه في ذلك.